فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى}
قال الشافعي رضى الله عنه أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى.
وقال غيره لا يثاب ولا يعاقب.
والقولان واحد لأن الثواب والعقاب غاية الأمر والنهى فهو سبحانه خلقهم للأمر والنهى في الدنيا والثواب والعقاب في الآخرة فأنكر سبحانه على من زعم أنه يترك سدى إنكار من جعل في العقل استقباح ذلك واستهجانه وأنه لا يليق أن ينسب ذلك إلى أحكم الحاكمين. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
سورة القيامة:
{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)}
قوله: {لاَ أُقْسِمُ}: العامَّةُ على (لا) النافيةِ. واختلفوا حينئذٍ فيها على أوجهٍ، أحدُها: أنها نافيةٌ لكلامٍ متقدّم، كأنَّ الكفارَ ذَكروا شيئاً. فقيل لهم: لا، ثم ابتدأ اللَّهُ تعالى قَسَماً. الثاني: أنها مزيدةٌ. قال الزمخشري: وقالوا إنها مزيدةٌ، مِثْلُها في: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] وفي قوله:
في بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وما شَعَرْ

واعترضوا عليه: بأنها إنما تُزاد في وسط الكلام لا في أولِه. وأجابوا: بأنَّ القرآن في حُكْمِ سورةٍ واحدةٍ متصلٍ بعضُه ببعضٍ. والاعتراضُ صحيحٌ؛ لأنها لم تقَعْ مزيدةً إلاَّ في وسط الكلامِ، لكن الجوابَ غيرُ سديدٍ. ألا ترى إلى امرئ القيسِ كيف زادَها في مستهلِّ قصيدتِه؟ قلت: يعني قوله:
لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ

كما سيأتي، وهذا الوجهُ والاعتراضُ عليه والجوابُ نقله مكي وغيرُه. الوجه الثالث: قال الزمخشري: إدخالُ (لا) النافيةِ على فعلِ القسمِ مستفيضٌ في كلامِهم وأشعارِهم. قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ ** يِ لا يَدَّعِي القومُ أنِّي أفِرّْ

وقال غُوَيَّةُ بن سُلْميٍّ:
ألا نادَتْ أُمامةُ باحْتمالِ ** لِتَحْزُنَني فلابِك ما أُبالي

وفائدتُها توكيدُ القسم. ثم قال بعد أَنْ حكى وجهَ الزيادةِ والاعتراضَ والجوابَ كما تقدّم والوَجهُ أَنْ يُقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك: أنه لا يُقْسِمُ بالشيءِ إلاَّ إعظاماً له يَدُلَّكَ عليه قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75-76] فكأنه بإدخالِ حرفِ النفي يقول: إنَّ إعظامي له بإقسامي به كلا إعظامٍ، يعني أنه يَسْتَأْهِلُ فوق ذلك. وقيل: (أن) {لا} نفيٌ لكلامٍ وَرَدَ قبل ذلك. انتهى.
فقوله: والوجهُ أَنْ يُقال. إلى قوله: يعني أنه يستأهِلُ فوق ذلك. تقريرٌ لقوله: إدخالُ (لا) النافيةِ على فعلِ القسمِ مستفيضٌ. إلى آخره.
وحاصلُ كلامِه يَرْجِعُ إلا أَنَّها نافيةٌ، وأنَّ النفيَ مُتَسَلِّطٌ على فعل القسمِ بالمعنى الذي شَرَحَه، وليس فيه مَنْعٌ لفظاً ولا معنىً ثم قال: فإن قلتَ: قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] والأبياتُ التي أَنْشَدْتُها المُقْسَمُ عليه فيها منفيٌّ، فهلا زَعَمْتَ أنَّ (لا) التي قبلَ القسمِ زِيْدَتْ موطئةً للنفيِ بعدَه ومؤكِّدةً له، وقَدَّرْتَ المقسم عليه المحذوفَ هاهنا منفيَّاً، كقولك: لا أُقْسم بيومِ القيامةِ لا تُتركون سُدى؟ قلت: لو قَصَروا الأمرَ على النفيِ دونَ الإِثباتِ لكان لهذا القول مَساغٌ، ولكنه لم يُقْصَرْ. ألا ترى كيف لُقِيَ {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} [البلد: 1] بقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} وكذلك قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75] بقوله: {إِنَّهُ لَقرآن كَرِيمٌ} وهذا من محاسنِ كلامِه فتأمَّلْه. وقد تقدّم الكلامُ على هذا النحوِ في سورة النساءِ، وفي آخر الواقعة، ولكنْ هنا مزيدُ هذه الفوائدِ.
وقرأ قنبل والبزي بخلافٍ عنه {لأُقْسِمُ بيوم} بلامٍ بعدَها همزةٌ دونَ ألفٍ. وفيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ، تقديرُه: واللَّهِ لأُقْسِمُ، والفعلُ للحالِ؛ فلذلك لم تَأْتِ نونُ التوكيدِ، وهذا مذهبُ الكوفيين. وأمَّا البصريُّون فلا يُجيزون أَنْ يقعَ فعلُ الحالِ جواباً للقسم، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذلك جُعل الفعل خبراً لمبتدأ مضمرٍ، فيعودُ الجوابُ جملة اسميةً قُدِّرَ أحدُ جزأَيْها، وهذا عند بعضِهم من ذلك، التقديرُ واللَّهِ لأنا أُقْسِمُ. الثاني: أنه فعلٌ مستقبلٌ، وإنما لم يُؤْتَ بنونِ التوكيدِ؛ لأنَّ أفعالَ اللَّهِ حقٌّ وصدقٌ فهي غنية عن التأكيدِ بخلاف أفعالِ غيره. على أنَّ سيبويهِ حكى حَذْفَ النونِ إلاَّ أنَّه قليلٌ، والكوفيون يُجيزون ذلك مِنْ غير قلةٍ إذ مِنْ مذهبهم جوازُ تعاقُبِ اللامِ والنونِ فمِنْ حَذْفِ اللامِ قول الشاعر:
وقتيلِ مَرَّةَ أَثْأَرَنَّ فإنَّه ** فَرْغٌ وإنَّ أخاكم لم يُثْأَرِ

أي: لأَثْأَرَنَّ. ومِنْ حَذْفِ النونِ وهو نظيرُ الآية قوله:
لَئِنْ تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ ** لَيَعْلَمُ ربي أنَّ بيتيَ واسعٌ

الثالث: أنها لامُ الابتداءِ، وليسَتْ بلامِ القسمِ. قال أبو البقاء: نحو: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} [النحل: 124] والمعروفُ أنَّ لامَ الابتداءِ لا تَدْخُل على المضارع إلاَّ في خبر (أن) نحو: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} وهذه الآيةُ نظيرُ الآيةِ التي في يونس [الآية: 16] {وَلاَ أَدْرَاكُمْ به} فإنهما قرأها. بقصر الألف، والكلامُ فيها قد تقدّم. ولم يُخْتَلَفْ في قوله: {ولا أُقْسِم} أنه بألفٍ بعد (لا)؛ لأنه لم يُرْسَمْ إلاَّ كذا، بخلاف الأولِ فإنه رُسِمَ بدون ألفٍ بعد (لا)، وكذلك في قوله: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} لم يُختلَفْ فيه أنَّه بألفٍ بعد (لا).
وجوابُ القسمِ محذوفٌ تقديرُه: لتُبْعَثُنَّ، دلَّ عليه قوله: {أيحسب الإنسان}. وقيل: الجوابُ أَيحسب. وقيل: هو {بلى قادِرين} ويُرْوَى عن الحسن البصري. وقيل: المعنى على نَفْيِ القسم، والمعنى: إني لا أُقْسِم على شيء، ولكن أسألُك: أيحسب الإنسان. وهذه الأقوالُ شاذَّةٌ مُنْكَرةٌ لا تَصِحُّ عن قائليها لخروجِها عن لسانِ العرب، وإنما ذكرْتُها للتنبيهِ على ضَعْفها كعادتي.
{أَيحسب الإنسان أَلَّنْ نَجْمَعَ عظامه (3)}
قوله: {أَلَّن}: هذه هي المخففةُ، وحكمُها معروفٌ ممَّا تقدّم في المائدةِ وغيرِها. و(لن) وما في حَيِّزها في موضع الخبرِ، والفاصلُ هنا حرفُ النفيِ، وهي وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْ {حَسِبَ} أو مفعولِه على الخلافِ. والعامَّةُ على {نجمعُ} بنونِ العظمة و{عظامَه} نصبٌ مفعولاً به. وقتادة {تُجْمع} بتاءٍ مِنْ فوقُ مضمومةٍ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، {عظامُه} رفعٌ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ.
{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)}
قوله: {بلى} إيجابٌ لِما بعد النفيِ المنسَحِب عليه الاستفهامُ. والعامَّة على نصبِ {قادِرين}. وفيه قولان، أشهرُهما: أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ فاعلِ الفعلِ المقدَّرِ المدلولِ عليه بحرفِ الجواب، أي: بلى نجمعُها قادرِين، والثاني: أنه منصوبٌ على خبرِ {كان} مضمرةً أي: بلى كُنَّا قادرين في الابتداءِ، وهذا ليس بواضح. وقرأ ابن أبي عبلة وابن السَّمَيْفَع {قادرون} رفعاً على خبر ابتداءٍ مضمر أي: بلى نحن قادرون.
{بَلْ يريد الإنسان ليفجر أَمَامَهُ (5)}
قوله: {بَلْ يريد}: فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ {بلى} لمجردِ الإضرابِ الانتقالي مِنْ غيرِ عطف، أَضْرَبَ عن الكلامِ الأولِ وأخذ في آخرَ. والثاني: أنها عاطفةٌ. قال الزمخشريُّ: {بل يريد} عطف على {أَيحسب} فيجوز أَنْ يكونَ مثلَه استفهاماً، وأن يكونَ إيجاباً على أَنْ يَضْرِبَ عن مُسْتَفْهَمٍ عنه إلى آخرَ، أو يَضْرِبَ عن مستفهمٍ عنه إلى مُوْجَبٍ. قال الشيخ بعد ما حَكَى عن الزمخشري: وهذه التقاديرُ الثلاثةُ متكلفةٌ لا تظهر. قلت: وليس هنا إلا تقديران.
ومفعولُ {يريد} محذوفٌ يَدُلُّ عليه التعليلُ في قوله: {ليفجر أمامَه} والتقدير: يريد شَهَواتِه ومعاصِيَه ليمضيَ فيها أبداً دائماً و{أمامَه} منصوبٌ على الظرفِ، وأصلُه مكانٌ فاسْتُعير هذا للزمان. والضميرُ في {أمامَه} الظاهر عَوْدُه على الإنسان. وقال ابن عباس: (يعودُ على يوم القيامة بمعنى: أنه يريد شهواتِه ليفجر في تكذيبه بالبعث بين يَدَيْ يومِ القيامة).
{يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)}
قوله: {يَسْأَلُ}: هذه جملة مستأنفةٌ. وقال أبو البقاء: تفسيرٌ {ليفجر} فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ مستأنفاً مُفَسِّراً، وأَنْ يكونَ بدلاً من الجملةِ قبلَها؛ لأنَّ التفسيرَ يكون بالاستئنافِ وبالبدلِ، إلاَّ أنَّ الثاني منع منه رَفْعُ الفعلِ، ولو كان بدلاً لنُصِبَ. وقد يُقال: إنه أبدلَ الجملة من الجملة لا خصوصيةَ الفعلِ من الفعلِ وحدَه. وفيه بحثٌ وتقدّم نظيرُ هذا في الذاريات وغيرها.
{فَإِذَا برق الْبَصَرُ (7)}
قوله: {برق}: قرأ نافِع {برق} بفتحِ الراء، والباقون بالكسرِ فقيل: لغتان في التحيُّرِ والدَّهْشة. وقيل: برق بالكسر تَحَيَّر فَزِعاً. قال الزمخشري: وأصلُه مِنْ برق الرجلُ: إذا نَظَر إلى البرق فَدُهِشَ بَصَرُه. قال غيرُه: كما يقال: أَسِدَ وبَقِرَ، إذا رأى أُسْداً وبَقرا كثيرةً فتحيَّر من ذلك. قال ذو الرمَّة:
ولو أنَّ لُقْمانَ الحكيمَ تَعَر‍َّضَتْ ** لعينَيْهِ مَيٌّ سافِراً كاد يَبرق

وقال الأعشى:
وكنتُ أَرَى في وجهِ مَيَّةَ لَمْحَةً ** فأَبرق مغشِيَّاً عليَّ مكانيا

وأنشد الفراء:
فنَفْسَك فانْعَ ولا تَنْعَني ** وداوِ الكُلومَ ولا تَبرق

وبرق بالفتح مِن البريق أي: لَمَعَ من شدةِ شخوصه. وقرأ أبو السَّمَّال {بَلَقَ} باللام. قال أهلُ اللغة إلاَّ الفراء. معناه فَتَحَ. يقال: بَلَقْتُ البابَ وأَبْلَقْتُه أي: فتحتُه وفَرجْتُه. وقال الفراء: بمعنى أَغْلَقْتُه. قال ثعلب: أخطأ الفراءُ في ذلك. ثم يجوز أَنْ يكونَ {بَلَقَ} غيرَ مادةِ برق، ويجوزُ أَنْ يكونَ مادةً واحدةً، أُبْدِل فيها حرفٌ مِنْ آخرَ، وقد جاء إبدالُ اللامِ من الراءِ في أحرف، قالوا: نَثَرَ كِنانته ونَثَلَها. وقالوا: وَجِلَ ووَجِرَ، فيمكن أن يكونَ هذا منه، ويؤيِّدُه أَنَّ برق قد أتى بمعنى: شَقَّ عيْنيْه وفَتَحَها، قاله أبو عبيدة. وأنشد:
لَمَّا أتاني مِنْ عُمَيْرٍ راغباً ** أَعْطَيْتُه عِيساً صِهاباً فبرق

أي: ففتح عينيْه، فهذا مناسِبٌ ل {بَلَقَ} في المعنى.
{وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)}
قوله: {وَخَسَفَ}: العامةُ على بنائِه للفاعلِ. وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويزيد بن قطيب {خُسِفَ} مبنياً للمفعول؛ وهذا لأن خَسَفَ يُستعمل لازماً ومتعدياً يقال: خَسَفَ القمرُ وخَسَفه الله، وقد اشْتُهر أن الخُسوفَ للقمرِ والكُسوفَ للشمسِ. وقال بعضهم: بل يكونان فيهما، يُقال: خَسَفَتِ الشمسُ وكَسَفَتْ، وخَسَفَ القمرُ وكَسَفَ. وتأيَّد بعضُهم بالحديث: «إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتان مِنْ آياتِ اللَّهِ لا يُخْسَفان لموتِ أحدٍ» فاستعملَ الخُسُوْفَ فيهما. وعندي فيه نَظَرٌ؛ لاحتمالِ التغليبِ وهل هما بمعنىً واحدٍ أم لا؟ فقال أبو عبيدٍ وجماعةٌ: هما بمعنىً واحدٍ. وقال ابن أبي أويس: «الخُسوفُ ذهابُ كلِّ ضَوْئِهما، والكُسوفُ ذهابُ بَعْضِه».
{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقول الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)}
قوله: {وَجُمِعَ الشمس والقمر}: لم تَلْحَقْ علامةُ تأنيثٍ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. وقيل: لتغليبِ التذكيرِ. وفيه نظرٌ؛ لو قلت: (قام هندٌ وزيدٌ) لم يَجُزْ عند الجمهورِ من العربِ. وقال الكسائي: حُمِل على معنى: جُمِعَ (النَّيِّران). و{يقول الإنسان} جوابٌ (إذا) مِنْ قوله: {فَإِذَا برق البصر}. و{أينَ المفرُّ} منصوبُ المحلِّ بالقول: والمَفَرُّ: مصدرٌ بمعنى الفِرار. وهذه هي القراءة المشهورة.
وقرأ الحَسَنان ابنا علي رضي الله عنهم وابنُ عباس والحسن ابن زيد في آخرين بفتح الميمِ وكسرِ الفاءِ، وهو اسمُ مكانِ الفرارِ أي: أين مكانُ الفِرار؟ وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يكونَ مصدراً. قال: كالمَرْجِعِ. وقرأ الحسنُ عكسَ هذا أي: بكسرِ الميمِ وفَتْحِ الفاءِ، وهو الرجلُ الكثيرُ الفِرارِ، وهذا كقول امرئِ القَيْسِ يَصِف جَوادَه:
مِكَّرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معاً ** كجُلْمودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السيلُ مِنْ عَلِ

وأكثرُ استعمالِ هذا الوزنِ في الآلاتِ.
{كَلَّا لَا وزر (11)}
قوله: {كَلاَّ لاَ وزر}: تقدّم الكلامُ في {كلا} وخبر (لا) محذوفٌ أي لا وزر له. وهل هذه الجملة مَحْكِيَّةٌ بقول الإنسان فتكونُ منصوبةٌ المحلِّ، أو هي مستأنفةٌ إخباراً من الله تعالى بذلك؟ والوزر: المَلْجأ مِنْ حِصْنٍ أو جَبَلٍ أو سلاحٍ. قال:
لَعَمرُكَ ما للفتى مِنْ وزر ** من الموتِ يُدْرِكُه والكِبَرْ

{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)}
قوله: {المستقر}: مبتدأٌ، خبرُه الجارُّ قبلَه. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً بمعنى الاستقرار، وأَنْ يكونَ مكانَ الاستقرار. {ويومَئذٍ} منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ، ولا ينْتَصِبُ بمُسْتقر؛ لأنَّه إنْ كان مصدراً فلتقدّمه عليه، وإنْ كان مكاناً فلا عَمَلَ له البتةَ.
{بَلِ الإنسان على نفسه بصِيرة (14)}
قوله: {بصِيرة}: يجوزُ فيها أوجهٌ، أحدُها: أنَّها خبرٌ عن {الإنسان} و{على نفسه} متعلِّقٌ ب {بصِيرة} والمعنى: بل الإنسان بصِيرة على نفسه، وعلى هذا فلأيِّ شيءٍ أُنِّث الخبرُ؟ وقد اختلف النَّحْويون في ذلك، فقال بعضهم: الهاءُ فيه للمبالغةِ. وقال الأخفش: هو كقولك: فلانٌ عِبْرَةٌ وحُجَّةٌ. وقيل: المرادُ بالإنسان الجوارِحُ، فكأنَّه قال: بل جوارِحُه بصِيرة أي: شاهدةٌ. والثاني: أنها مبتدأٌ، و{على نفسه} خبرُها. والجملة خبرٌ عن {الإنسان}، وعلى هذا ففيها تأويلاتٌ أحدُها: أنْ يكونَ {بصِيرة} صفةً لمحذوفٍ أي: عينٌ بصِيرة، قاله الفراء. وأنشد:
كأن على ذي العقْل عَيْناً بصِيرة ** بمَقْعَدِه أو مَنْظَرٍ هو ناظرُهْ

يُحاذِرُ حتى يحسب الناسَ كلَّهمْ ** من الخوف لا تَخْفَى عليهمْ سرائِرُهْ

الثاني: أنَّ المعنى: جوارح بصِيرة. الثالث: أنَّ المعنى: ملائكةٌ بصِيرة، والتاءُ على هذا للتأنيثِ. وقال الزمخشري: {بصِيرة}: حُجَّةٌ بَيِّنة، وُصِفَتْ بالبِصارة على المجازِ كما وُصِفَتْ الآياتُ بالإِبصار في قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل: 13]. قلت: هذا إذا لم تَجْعَلِ الحُجَّة عبارةً عن الإنسان، أو تَجْعَلْ دخولَ التاء للمبالغةِ. أمَّا إذا كانَتْ للمبالغةِ فنسبةُ الإِبصارِ إليها حقيقةٌ. الثالث من الأوجه السابقة: أَنْ يكونَ الخبرُ الجارَّ والمجرورَ، و{بصِيرة} فاعلٌ به، وهو أرجحُ مِمَّا قبلَه لأنَّ الأصلَ في الإِخبارِ الإِفرادُ.
{وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)}
قوله: {وَلَوْ ألقى}: هذه الجملة حاليةٌ. وقد تقدّم نظيرُها غيرَ مرةٍ. والمعاذير: جمع مَعْذِرة على غيرِ قياس، كمَلاقيح ومَذاكير جمع لَقْحَة وذَكَر. وللنَّحويين في مثلِ هذا قولان، أحدهما: أنه جمعٌ لملفوظٍ به، وهو لَقْحَة وذَكَر. والثاني: أنه جمعٌ لغيرِ ملفوظٍ به بل لمقدرٍ أي: مَلْقَحَة ومِذْكار. وقال الزمخشري: فإن قلتَ: أليسَ قياسُ المَعْذِرَة أَنْ يُجْمَعَ معاذِرَ لا معاذير؟ قلت: المعاذيرُ ليسَتْ بجمع مَعْذِرة، بل اسمُ جمعٍ لها، ونحوُه: المَناكير في المُنْكر. قال الشيخ: وليسَ هذا البناءُ من أبنيةِ أسماءِ الجُموع، وإنما هو مِنْ أبنيةِ جموعِ التكسيرِ. انتهى، وهو صحيحٌ. وقيل: مَعاذير: جمعُ مِعْذار، وهو السِّتْرُ، فالمعنى: ولو أرخى سُتورَه. والمعاذِيْرُ: السُّتور بلغةِ اليمن، قاله الضحاك والسُّدِّي وأُنشد على ذلك:
ولكنَّها ضَنَّتْ بمَنْزلِ ساعةٍ ** علينا وأَطَّتَ فوقَها بالمعَاذِرِ

وقد حَذَفَ الياءَ من (المعاذير) ضرورةً. وقال الزمخشري: فإنْ صَحَّ يعني أنَّ المعاذير السُّتور فلأنَّه يَمْنَعُ رؤيةَ المُحْتَجِبِ كما تَمْنَعُ المعذرةُ عقوبةَ المُذْنِبِ. قلت: هذا القول منه يُحتمل أَنْ يكونَ بياناً للمعنى الجامع بين كَوْنِ السُّتورَ، أو الاعتذاراتِ، وأَنْ يكونَ بياناً للعلاقةِ المُسَوِّغةِ في التجوُّز.
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقرآنه (17)}
قوله: {وقرآنه}: أي: قراءته، فهو مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ. وأمَّا الفاعلُ فمحذوف. والأصلُ: وقراءتك إياه، والقرآن: مصدرٌ بمعنى القراءة. قال حَسَّان رضي الله عنه:
...................... ** يُقَطِّعُ الليلَ تَسْبيحاً وقرآنا

وقال ابن عطية: قال أبو العالية: {إنَّ علينا جَمْعَه وقرآنه فإذا قَرَتَه فاتَّبِعْ قرآنه} بفتح القافِ والراء والتاءِ، مِنْ غيرِ همزٍ ولا ألفٍ. قلت: ولم يَذْكُرْ توجيهاً. فأمَّا توجيهُ قوله: {جَمْعَه وقرآنه}، وقوله: {فاتَّبِعْ قرآنه} فواضحٌ مِمَّا تقدّم في قراءة ابن كثير في البقرة، وأنه هل هو نَقْلٌ، أو مِنْ مادةِ قَرَن، وتحقيقُ القوليْن مذكورٌ ثَمَّةَ فعليك بالالتفاتِ إليه. وأمَّا قوله: بفتحِ القافِ والراءِ والتاء. فيعني في قوله: {فإذا قَرَتَه} يُشير إلى أنه قرئ شاذاً هكذا، وتوجيهُها: أنَّ الأصلَ: {قرأتَه} فعلاً ماضياً مُسْنداً لضمير المخاطبِ أي: فإذا أَرَدْتَ قراءته، ثم أبدلَ الهمزةَ ألفاً لسكونِها بعد فتحةٍ، ثم حَذَفَ الألفَ تخفيفاً كقولهم: (ولو تَرَ ما الصبيانَ) أي: ولو تَرَى الصبيانَ و(ما) مزيدة، فصار اللفظُ {قَرَتَه} كما ترى.
{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20)}
قوله: {بَلْ تُحِبُّونَ}: قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ و{يُحِبُّون} و{يَذَرون} بياءِ الغَيْبة حملاً على لفظِ الإنسان المذكور. أولاً؛ لأنَّ المرادَ به الجنسُ، والباقون بالخطابِ فيهما: إمَّا خِطاباً لكفارِ قريش، وإمَّا التفاتاً عن الإخبار عن الجنسِ المتقدّم والإِقبالِ عليه بالخطاب.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)}
قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ}: فيه أوجهٌ أحدُها: أَنْ يكون {وجوهٌ} مبتدأً، و{ناضِرةٌ} نعتٌ له، و{يومَئذٍ} منصوبٌ ب {ناضِرة} و{ناظرةٌ} خبرُه، و{إلى ربها} متعلِّقٌ بالخبرِ، والمعنى: أنَّ الوجوهَ الحسنة يومَ القيامة ناظرةٌ إلى اللَّهِ تعالى، وهذا معنىً صحيحٌ وتخريجٌ سَهْلٌ. والنَّاضرَةُ: من النُّضْرَةِ وهي: التنعُّمُ، ومنه غُصْنٌ ناضِر. الثاني: أَنْ يكونَ {وجوهٌ} مبتدأً أيضاً، و{ناضِرَةٌ} خبرُه، و{يومَئذٍ} منصوبٌ بالخبرِ كما تقدّم. وسَوَّغَ الابتداءَ هنا بالنكرةِ كَوْنُ الموضعِ موضعَ تفصيلٍ كقوله:
..................... ** فثوبٌ لَبِسْتُ وثوبٌ أَجُرّْ

ويكون {ناظرةٌ} نعتاً لوجوه، أو خبراً ثانياً، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ. و{إلى ربها} متعلقٌ ب {ناظرة} كما تقدّم. وقال ابنُ عطية: وابتدأ بالنكرة لأنها تخصَّصَتْ بقوله: {يومئذٍ}. وقال أبو البقاء: وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ لحصول الفائدةِ. قلت: أمَّا قول ابنِ عطيِّةَ ففيه نظرٌ؛ لأنَّ قوله: تخصَّصَتْ بقوله: {يومئذٍ} هذا التخصيصُ: إمَّا لكونِها عاملةً فيه، وهو مُحالٌ؛ لأنها جامدةٌ، وإمَّا لأنَّها موصوفةٌ به وهو مُحال أيضاً؛ لأنَّ الجُثَثَ لا تُوْصَفُ بالزمان كما لا يُخْبَرُ به عنها. وأمَّا قول أبي البقاءِ فإنْ أرادَ بحصولِ الفائدةِ ما قدّمتُه من التفصيل فصحيحٌ، وإنْ عَنَى ما عناه ابنُ عطيةَ فليس بصحيحٍ لِما عَرَفْتَه.
الثالث: أَنْ يكونَ {وجوهٌ} مبتدأً، و{يومئذٍ} خبرَه، قاله أبو البقاء. وهذا غَلَطٌ مَحْضٌ من حيث المعنى، ومِنْ حيثُ الصناعةُ. أمَّا المعنى فلا فائدةَ في الإِخبارِ عنها بذلك. وأمَّا الصناعةُ فلأنَّه لا يُخْبَرُ بالزمانِ عن الجُثَثِ، وإنْ وَرَدَ ما ظاهرهُ ذلك تُؤُوِّل نحو: (الليلةَ الهلالُ) الرابع: أَنْ يكونَ {وجوهٌ} مبتدأً و{ناضرةٌ} خبرَه، و{إلى رَبها نَاظِرَةٌ} جملة في موضعِ خبرٍ ثانٍ، قاله ابن عطية. وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لا يَنْعَقِدُ منهما كلامٌ، إذ الظاهرُ تعلُّقُ (إلى) ب {ناظرة}، اللهمَّ إلاَّ أَنْ يعنيَ أنَّ {ناظرةٌ} خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: هي ناظرةٌ إلى ربها، وهذه الجملة خبرٌ ثانٍ. وفيه تَعَسُّفٌ.
الخامس: أَنْ يكونَ الخبرُ لوجوه مقدراً، أي: وجوهٌ يومئذٍ ثَمَّ، و{ناضرةٌ} صفةٌ، وكذلك {ناظرةٌ}، قاله أبو البقاء. وهو بعيدٌ لعدمِ الحاجةِ إلى ذلك. ولا أدري ما الذي حَمَلهم على هذا مع ظهورِ الوجهِ الأولِ وخُلُوصِه من هذه التعسُّفاتِ؟ وكونُ (إلى) حرفَ جرّ، و{ربها} مجروراً بها هو المتبادَرُ للذِّهْنِ.
وقد خَرَّجه بعضُ المعتزلةِ: على أَنْ تكونَ (إلى) اسماً مفرداً بمعنى النِّعْمَةِ مضافاً إلى الرَّبِّ، ويُجمع على {آلاء} نحو: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] وقد تقدّم أنَّ فيه لغاتٍ أربعاً، و{ربها} خفضٌ بالإِضافةِ، و(إلى) مفعولٌ مقدمٌ ناصبه {ناظرةٌ} بمعنى مُنْتَظرة. والتقدير: وجوهٌ ناضِرَةٌ منتظرةٌ نعمةَ ربها. وهذا فِرارٌ من إثباتِ النظر للَّهِ تعالى على مُعْتَقَدِهم.
والزمخشريُّ تمحَّل لمذهب المعتزلة بطريق أخرى من جهةِ الصناعةِ النحويةِ فقال بعد أن جَعَلَ التقديمِ في {إلى ربها} مُؤْذِناً بالاختصاص. والذي يَصِحُّ معه أَنْ يكونَ مِنْ قول الناس: (أنا إلى فلانٍ ناظرٌ ما يَصْنَعُ بي) يريد معنى التوقعِ والرجاءِ. ومنه قول القائل:
وإذا نَظَرْتُ إليك مِنْ ملكٍ ** والبحرُ دونَك زِدْتَني نِعَما

وسمعتُ سَرَوِيَّةً مُسْتجديَةً بمكة وقت الظهرِ حين يُغْلِقُ الناسُ أبوابهم ويَأْوُوْن إلى مقايِلهم تقول: (عُيَيْنتي ناظِرَةٌ إلى اللَّهِ وإليكم) والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمةَ والكرامةَ إلاَّ مِنْ ربهم. قلت: وهذا كالحَوْمِ على قول مَنْ يقول: إنَّ {ناظرة} بمعنى مُنْتظرة. إلاَّ أنَّ مكيَّاً قد رَدَّ هذا القول فقال: ودخولُ (إلى) مع النظر يَدُلُّ على أنه نَظَرُ العَيْنِ، وليس من الانتظار، ولو كان من الانتظارِ لم تَدْخُلْ معه (إلى)؛ ألا ترى أنَّك لا تقول: انتظرتُ إلى زيدٍ، وتقول: نظرْتُ إلى زيد، ف (إلى) تَصْحَبُ نظرَ العينِ لا تصحَبُ نَظَرَ الانتظار، فَمَنْ قال: إن {ناظرة} بمعنى مُنتظرة فقد أخطأ في المعنى وفي الإِعراب، ووَضَعَ الكلامَ في غيرِ موضعِه.
والنُّضْرَةُ: طَراوةُ البَشَرةِ وجمالُها، وذلك مِنْ أثرِ النُّعمةِ يُقال: نَضِر وَجْهُه فهو ناضِرٌ. وقال بعضهم: مُسَلَّمٌ أنه مِنْ نَظِرِ العينِ، إلاَّ أنَّ ذلك على حَذْفِ مضافٍ، أي: ثوابَ ربها، ونحوُه. قال مكي: لو جاز هذا لجازَ: نَظَرْتُ إلى زيد، أي: إلى عطاءِ زيدٍ. وفي هذا نَقْضٌ لكلامِ العربِ وتَخْليطٌ في المعاني. ونَضَره الله ونَضَّره مخففاً ومثقلاً، أي: حَسَّنه ونَعَّمه، وفي الحديث: «نضرَ اللَّهُ امرَأً سَمِع مقالتي فوَعَاها، فأدَّاها كما سَمِعَها» يُرْوَى بالوجهَيْنِ. وقيل للذهب: (نُضار) من ذلك. ويُقال له: النَّضْرُ أيضاً، وأخضرُ ناضِرُ، ك أسودُ حالكٌ، وقَدَحٌ نُضارٌ ونُضارٍ، يُرْوَى بالإِتباع والإِضافة.
والعامَّة على {ناضِرَة} بألفٍ. وقرأ زيدُ بن علي {نَضِرَة} بدونِها، كفَرِحَ فهو فَرِحٌ.
{تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بها فَاقِرَةٌ (25)}
قوله: {فَاقِرَةٌ}: هي الداهيةُ العظيمةُ، سُمِّيَتْ بذلك لأنها تكسِرُ فَقارَ الظَّهْرِ. قال النابغة:
أَبَى لِيَ قَبْرٌ لا يزالُ مُقابِليْ ** وضَرْبَةُ فَأْسٍ فوقَ رَأْسيَ فاقِرَهْ

أي: داهِيَةٌ مُؤَثِّرَةٌ، ومنه سُمِّي الفقيرُ لانكسارِ فَقارِه من القُلِّ، وقد تقدّم في البقرة.
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)}
قوله: {التراقي}: مفعولُ {بَلَغَتْ}، والفاعلُ مضمرٌ يعود على النفسِ، وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ، كقول حاتم:
أماوِيَّ ما يُغْنِي الثَّراءُ عن الفتى ** إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدرُ

أي: حَشْرَجَتِ النفسُ. وقيل في البيت: إنَّ الدالَّ على النفس ذِكْرُ جملة ما اشتملَ عليها، وهو الغِنى، فكذلك هنا ذِكْرُ الإنسان دالٌّ على النفسِ. والتَّراقِي: جمع تَرْقُوَة، أصلُها تَراقِوُ، قُلِبَتْ واوُها ياءً لانكسار ما قبلها. والتَّرْقُوَة إحدى عِظامِ الصدرِ، كذا قال الشيخ، والمعروفُ غيرُ ذلك. قال الزمخشري: ولكلِّ إنسانٍ تَرْقُوَتان. فعلى هذا تكونُ مِنْ باب: غليظِ الحواجب وعريضِ المناكب. والتراقِي: موضِعُ الحَشْرَجَةِ. قال:
ورُبَّ عظيمةٍ دافَعتُ عنها ** وقد بلغَتْ نفوسُهُمُ التراقِيْ

وقال الراغب: التَّرْقُوَةُ عَظْمٌ وُصِلَ ما بين ثُغْرَةِ النحرِ والعاتِق. انتهى. وقال الزمخشري: العِظامُ المكتنِفةُ لثُغْرَةِ النَّحْرِ عن يمينٍ وشِمالٍ. ووزنها فَعْلُوة، فالتاءُ أصلٌ والواوُ زائدةٌ، يَدُلُّ عليه إدخالُ أهل اللغةِ إياها في مادة (تَرَق). وقال أبو البقاء: والتراقي: جمع تَرْقُوَة. وهي فَعْلُوة، وليست تَفْعُلَة، إذ ليس في الكلام (رقو)، وقرئ: {التراقي} بسكونِ الياء، وهي كقراءة زيدٍ {تُطْعِمون أهالِيْكم} [المائدة: 89] وقد تقدّم توجيهُها.
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)}
قوله: {مَنْ رَاقٍ}: مبتدأٌ وخبرٌ. وهذ الجملة هي القائمةُ مَقامَ الفاعلِ، وأصولُ البَصْريين تَقْتَضي أَنْ لا تكونَ؛ لأنَّ الفاعلَ عندهم لا يكونُ جملة؛ بل القائمُ مَقامَه ضميرُ المصدرِ، وقد تقدّم تحقيقُ هذا أولَ البقرة، وهذا الاستفهامُ يجوزُ أن يكونَ على بابه، وأَنْ يكونَ استبعاداً وإنكاراً. وراقٍ اسمُ فاعلٍ: إمَّا من رَقَى يَرْقَى من الرُقية وهو كلامٌ مُعَدٌّ للاستشفاء، يُرْقَى به المريضُ لِيُشْفَى. وفي الحديث: «وما أدراكَ أنها رُقْيَةٌ»؟ يعني الفاتحةَ وهو مِنْ أسمائِها، وإمَّا مِنْ رَقِيَ يَرْقَى، من الرُّقِيِّ وهو الصعودُ، أي: إنَّ الملائكةَ لِكراهتِها في رُوْحِه تقول: مَنْ يَصْعَد بهذه الروح؟ يقال: رَقَى بالفتحِ من الرُّقْيَةِ، وبالكسرِ من الرُّقِيِّ. ووقف حفَص على نون (من) سكتَةً لطيفةً، وتقدّم هذا في أولِ الكهف وتحقيقُه. وذكرَ سيبويه إنَّ النونَ تُدْغَمُ في الراءِ وجوباً بغُنَّةٍ وبغيرِها نحو: مَنْ راشِدٌ.
والعاملُ في {إذا بلغَت} معنى قوله: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} أي: إذا بلغَتِ الحُلْقومَ رُفِعَتْ إلى الله. ويكونُ قوله: {وقيل مَنْ راقٍ} معطوفاً على {بَلَغَت}.
والمِساقُ: مَفْعَل من السَّوْقِ وهو اسمُ مصدرٍ.
{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)}
قوله: {فَلاَ صَدَّقَ}: (لا) هنا دَخَلَتْ على الماضي، وهو مُسْتفيضٌ في كلامِهم بمعنى: لم يُصَدِّق ولم يُصَلِّ. قال:
إنْ تَغْفِر اللهمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ** وأيُّ عبدٍ لكَ لا ألَمَّا

وقال آخر:
وأيُّ خَميسٍ لا أَفَأْنا نِهابه ** وأسيافُنا مِنْ كَبْشِه تَقْطُر الدِّما

واستدلَّ بعضُهم أيضاً على ذلك بقول امرِئ القيس:
كأنَّ دِثاراً حَلَّقَتْ بلَبُوْنِه ** عُقابُ تَنُوْفَى لا عُقابُ القواعِلِ

فقوله: (لا عُقابُ) عطف على (عُقابُ تَنُوفَى) وهو مرفوعٌ بحلَّقَتْ، وفي البيتَيْنِ الأَوَّلَيْنِ غُنْيَةٌ عن هذا.
وقال مكي: (لا) الثانيةُ نفيٌ، وليسَتْ بعاطفةٍ، ومعناه: فلم يُصَدِّقْ ولم يُصَلِّ. قلت: كيف يُتَوَهَّمُ العطف حتى يَنْفِيَه؟ وجعل الزمخشريُّ {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} عطفاً على الجملة مِنْ قوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة} قال: وهو معطوف على قوله: {يَسْأل أيَّان}، أي: لا يُؤْمِنُ بالبعثِ فلا صَدَّقَ بالرسول والقرآن، واستبعده الشيخ.
{وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)}
قوله: {ولكن كَذَّبَ}: الاستدراكُ هنا واضحٌ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ التصدُّقِ والصلاةِ التكذيبُ والتولِّي؛ لأنَّ كثيراً من المسلمين كذلك، فاسْتَدْرَكَ ذلك: بأنَّ سببه التكذيبُ والتولِّي، ولهذا يَضْعُفُ أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُ التصديقِ على نَفْيِ تصديقِ الرسولِ؛ لئلا يَلْزَمَ التكرارُ، فتقعَ {لكنْ} بين متوافقَيْن، وهو لا يجوزُ.
{ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)}
قوله: {يتمطى}: جملة حاليةٌ مِنْ فاعل {ذَهَبَ}، وقد يجوز أَنْ يكونَ بمعنى: شرع في التمطي كقوله:
فقامَ يَذُوْدُ الناسُ عنها

وتمطَّى فيه قولان، أحدُهما: أنَّه مِنْ المَطا، والمطا: الظهرُ، ومعناه: يَتَبَخْتَرُ، أي: يَمُدُّ مَطاه ويَلْويه تَبَخْتُراً في مِشْيته. والثاني: أنَّ أصلَه: يَتَمَطَّطُ، مِنْ تَمَطَّط، أي: تَمَدَّد، ومعناه: أنَّه يتمدَّدُ في مِشْيَتِه تَبَخْتُراً، ومِنْ لازِمِ التبختُرِ ذلك، فهو يَقْرُبُ مِنْ معنى الأول ويفارِقُه في مادتِه؛ إذ مادةُ المَطا: م ط و، ومادةُ الثاني: م ط ط، وإنما أُبْدِلَتِ الطاءُ الثالةُ ياءً كراهةَ احتمالِ الأمثالِ نحو: تَظَنَّيْت وقَصَّيْتُ أظفاري، وقوله:
تَقَضِّيَ البازِيْ إذا البازِيْ كَسرْ

والمُطَيْطاء: التَّبَخْتُرُ ومَدُّ اليَديْن في المَشْيِ، والمَطيطة: الماء الخاثِرُ أسفلَ الحوضِ؛ لأنه يتمطَّطُ، أي: يمتَدُّ فيه.
{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)}
وتقدّم الكلامُ على قوله: {أولى لَكَ فأولى} في آخر سورة القتال مُشبعاً، وإنما كُرِّرَ هنا مبالغةً في التهديد والوعيد. وقالت الخنساء:
هَمَمْتُ بنفسِيَ كلَّ الهمومِ ** فأَوْلَى لنفسِيَ أَوْلَى لها

وقال أبو البقاء هنا: وزنُ أَوْلَى فيه قولان، أحدُهما: فَعْلَى، والألفُ فيه للإِلحاقِ لا للتأنيثِ، والثاني: هو أَفْعَلُ، وهو على القوليْن هنا عَلَم ولذلك لم يُنَوَّنْ، ويَدُلُّ عليه ما حكى أبو زيدٍ في (النوادر): (هي أَوْلاةُ) بالتاءِ غيرَ مَصْروفٍ، فعلى هذا يكونُ {أَوْلى} مبتدأً، و{لك} الخبرُ. والثاني: أَنْ يكونَ اسماً للفعل مبنياً ومعناه: وَلِيَكَ شَرٌّ بعد شَرّ، و{لك} تبيينٌ.
{أَيحسب الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)}
قوله: {سُدًى}: حالٌ مِنْ فاعلِ {يُتْرَكُ} ومعناه: مُهْمَلاً يقال: إبلٌ سُدَى، أي: مُهْملة. قال الشاعر:
وأُقْسِمُ بالله جَهْدَ اليمينِ ** ما خَلَقَ اللَّهُ شيئاً سُدَى

أي: مُهْملاً. وأَسْدَيْتُ حاجتي، أي: ضيَّعْتُها. ومعنى (أَسْدَى إليه معروفاً)، أي: جعله بمنزلةِ الضَّائع عند المُسْدى إليه لا يذكره ولا يَمُنُّ به عليه.
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)}
قوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً}: العامَّةُ على الياءِ مِنْ تحتُ في {يك} رجوعاً للإِنسان. والحسن بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ إليه توبيخاً له.
قوله: {يمنى} قرأ حفص {يُمْنى} بالياء مِنْ تحتُ، وفيه وجهان: أحدُهما: أنَّ الضميرَ عائدٌ على المنيِّ، أي: يُصَبُّ، فتكونُ الجملة في محلِّ جر. والثاني: أنه يعودُ للنُّطفةِ؛ لأنَّ تأنيثَها مجازيُّ، ولأنَّها في معنى الماءِ، قاله أبو البقاء، وهذا إنما يتمشَّى على قول ابنِ كيسان. وأمَّا النحاةُ فيجعلونه ضرورةً كقوله:
............................. ** ولا أرضَ أبْقَلَ إبْقالها

وقرأ الباقون: {تُمْنَى} بالتاءِ مِنْ فوقُ على أنَّ الضميرَ للنُّطفة. فعلى هذه القراءة وعلى الوجهِ المذكورِ قبلَها تكونُ الجملة في محلِّ نصبٍ؛ لأنها صفةٌ لمنصوبٍ.
{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)}
قوله: {الذكر والأنثى}: يجوزُ أَنْ يكونا بَدَلَيْنِ مِنْ {الزَّوْجَيْن}، وأَنْ يكونا منصوبَيْن بإضمارِ (أعني) على القطع، والأصلُ عَدَمُه. وقرأ العامَّةُ {الزوجَيْن} وزيدٌ بن علي {الزوجان} على لغة مَنْ يُجْري المثنى إجراءَ المقصورِ، وقد تقدّم تحقيقُه في طه، ومَنْ تُنْسَبُ إليه هذه اللغةُ، والاستشهادُ على ذلك.
{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}
وقرأ العامَّةُ أيضاً: {بقادرٍ} اسمَ فاعلٍ مجروراً بباءٍ زائدةٍ في خبرِ (ليس). وزيدُ بن علي {يَقْدِرُ} فعلاً مضارعاً. والعامَّةُ على نصب {يُحْيِيَ} ب (أن) لأنَّ الفتحةَ خفيفةٌ على حرفِ العلةِ. وقرأ طلحةُ بن سليمان والفياض بن غزوان بسكونها: فإمَّا أَنْ يكونَ خَفَّفَ حرفَ العلةِ بحَذْفِ حركةِ الإِعرابِ، وإمَّا أَنْ يكونَ أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ.
وجمهورُ الناسِ على وجوبِ فَكِّ الإِدغامِ. قال أبو البقاء: لئلا يُجْمَعَ بين ساكنَيْن لفظاً أو تقديراً. قلت: يعني أنَّ الحاءَ ساكنةٌ، فلو أَدْغَمْنا لسَكَنَّا الياءَ الأولى أيضاً للإِدغام فيَلْتقي ساكنان لفظاً، وهو مُتَعَذَّرُ النطقِ، فهذان ساكنان لفظاً. وأمَّا قوله: (تقديراً) فإنَّ بعضَ الناسِ جوَّز الإِدغامَ في ذلك، وقراءته {أَنْ يُحِيَّ} وذلك أنه لَمَّا أراد الإِدغامَ نَقَلَ حركةَ الياءِ الأولى إلى الحاء، وأدغمها، فالتقى ساكنان: الحاءُ لأنها ساكنةٌ في التقدير قبل النقلِ إليها والياءُ؛ لأنَّ حركتَها نُقِلَتْ مِنْ عليها إلى الحاءِ، واستشهد الفراءُ لهذه القراءة: بقوله:
..................... ** تَمْشِي لسُدَّةِ بيتها فَتُعِيُّ

وأمَّا أهلُ البصرةِ فلا يُدْغِمونه البتةَ، قالوا: لأنَّ حركةَ الياءِ عارضةٌ؛ إذ هي للإِعرابِ. وقال مكي: وقد أجمعوا على عَدَمِ الإِدغامِ في حالِ الرفع. فأمَّا في حالِ النصبِ فقد أجازه الفراءُ لأجلِ تحرك الياء الثانيةِ، وهو لا يجوزُ عند البَصْريين؛ لأنَّ الحركةَ عارضةٌ. قلت: ادعاؤُه الإِجماعَ مردودٌ بالبيتِ الذي قدّمتُ إنشاده عن الفراءِ، وهو قوله: (فَتُعِيُّ) فهذا مرفوعٌ وقد أُدْغِمَ. ولا يَبْعُدُ ذلك؛ لأنَّه لَمَّا أُدْغِم ظهرَتْ تلك الحركةُ لسكونِ ما قبل الياءِ بالإِدغام. اهـ.